لقد علمت أن الصراع بين حقٍ وحق لا يكون ، قال تعالى : ( ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ) فالظلمات
كثيرة والنور واحد ، وعلمت أن الصراع بين حق وباطل لا يدوم ، فللحق قوة لا بد أن تنتصر وإن انتصر
حق القوة كثيراً ، قال تعالى : (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وعلمتُ أيضاً أن
الصراع بين باطلين لا يزول ، وإني لأخشى أن يكون الصراع الذي سأحدثكم عنه من النوع الأخير ، فاللهم أجِرنا ،
ولكني أشعرُ أنه _ وإن أطلقتُ عليه اسم صراع _ رحمةً للناس ، فاختلافُ الفقهاء رحمة للناس ، فاللهم أرِنا الحق
حقاً وارزقنا اتباعه وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
على أرض نفسي ، وفي ساحة فكري ، دار هذا الصراع ، منذ أن أدركت فكرة المنتديات الانترنتية .
للوهلة الأولى ، ولفترة قصيرة جداً جداً والحمد لله ، كانت بعض المنتديات بالنسبة لي كالحبِ الذي يضعه الصياد للطير ،ولم أكن أرَ بعين العقل التي ترى الشَرَك ، ولم يصل الأمرُ بي إلى أن استخدم عينَ الهوى للرؤية ، العين العمياء التي لا ترى شيئاً ، ولكني كنت أرى بعين الطبع ، فتقتصر الرؤية عندي على الحَبِ فقط .
اليوم ، وبعد أن أنجاني اللهُ من الحبِ والشبكة ، وقفتُ على ساحةِ الصراع ، أتذكرهُ وأنظرُ إليه بعين القاضي الذي
لا يشكو جوعاً ولا فقراً ، فتذكرتُ أن نفسي حدثتني بأن الابتعادَ عن المشاركةِ في المنتديات هو الخير ،
ففي ذلك راحةٌ للبال ، وبعدٌ عن القيل والقال ، فأجابت نفسي نفسي الأولى قائلةً : أوَتكونُ الراحةُ في التفرج ؟
أوَمرتاحونَ العربُ في قلةِ ردهم ؟ أوَلم يحاججُ ويناقشُ سيدنا إبراهيمُ قومه ؟ ألا تعتقدين أن نقاشاً قد يكون يكون سبباً
في نصرةِ الحق وإضاءة الطريق لأحدهم ؟ أوَينتهي القيل والقالُ بامتناعكِ عن الكتابة في المنتديات والرد والنقاش ؟
فردت نفسي المؤيدةُ للابتعاد قائلة : (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضلَ إذا اهتديتم )
وهذا زمنُ الفتن ، وفي الفتنةِ يكفي أن تغلقَ بابك على نفسك وتلجأُ إلى ربك .
ثم إنني بابتعادي عن المشاركة في المنتديات ، أبتعدُ عن الاختلاط ، نعم ، الاختلاط عبرَ الشاشات، أوَلم يُحرمُ الاختلاطُ بين الجنسين ؟ أوَليس تبادلُ الكلامِ اختلاطاً ؟ أوَكانَ التحريمُ للاختلاطِ قد اشترط أن يكونَ الحديثُ وجهاً لوجه؟
أليس الختلاط عبرَ الشاشاتِ أدهى وأمر من الاختلاط العادي في بعض الأحيان ؟ إذ أن الكلام قد يطول خلف
ستائرَ لا تزول ، وأقنعة جميلة وكلام معسول ؟ فيصعب الخروج من هذه الدوامة ، وكيف السبيل للخروج منها
وهي دوامةُ إدمان ، والداءُ خفي ، والأطباء والمراقبون قليلون _والأهل واثقون_ في ظل الانتشار الواسع للمرض؟
فأجابت نفسي المؤيدةُ للمشاركةِ بأن الله لم يحرم الاختلاط ، بل وضع له ضوابط ، وما حرمه ، وسكتت.
أجابت نفسي الأخرى قائلةً : (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ) ، فلماذا نخطو خطوةً في طريق محفوف بالمخاطر؟
أوَليست الخطوةُ تتبعها أخرى ؟ فلمَ لا نغلقُ الطريقَ المشبوه من البداية؟
وافترضي أنني التزمتُ بضوابطِ الكتابةِ الإسلامية ، التي لا تجرح شخصاً ولا تخدش حياءً والتي تستخدم الحجة والبرهان ،أوَلا تعتقدينَ أن هذا قد يكونُ خطراً على قلوب الآخرين ؟ نعم خطراً ، أما سمعتي أنه كما قد تعشقُ الأذنُ قبل العينِ أحياناً ،فقد يعشقُ الفكرُ الفكرَ أحياناً ...

استيأست نفسي المؤيدةُ للمشاركة ، فقالت للأخرى ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم بما يفيدُ أن مخالطةَ الناسَ والصبرَ على أذاهم خير،وأن الانترنت منبرٌ ضخم ، يصل لعدد كبيرٍ من الناسِ ،وأنه كالتلفازِ ، فيه الضارُ والمفيد، وأن عدداً من الدعاةِ يظهرون في التلفاز ،ولا يضرهم إن كانت نفسُ القنواتِ التي يوجهون دعوتهم للناس عبرها ، إن كانت في أوقاتٍ أخرى تبثُ الطرب والمجون ، ولكنهم يستغلونه استغلالاً مفيداً لهم وللناس ، ولأنهم يعلمونَ أنهم إذا تراجع الواحدُ منهم تلوَ الآخر ، وآثرَ السلامةَ لنفسه فقط باجتناب النت والمشاركةِ فيه ،فإن المكان سيخلوا للفارغين وما يبثوه من سموم .
عندها سكتت نفسي الرافضةُ للمشاركةِ ، وقررَ القاضي العملَ بما يمليه الضميرُ في كل لحظة ، فكلُ لحظةِ صراع تحتاجُ جلسةً لتداول ظروفها ...